من ينفذ السياسة الامريكية داخل وكالة الغوث ؟

 

فتحي كليب / عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

 

كان واضحا ان وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (اونروا) هي احدى الركائز الاساسية التي استند اليها الرئيس الامريكي السابق ترامب في مشروعه السياسي (صفقة القرن) اختصرتها مقولته الشهيرة: "ندفع مئات الملايين من الدولارات سنويا ولا نحصل على أي تقدير أو احترام"، وسبب ذلك هو رفض الشعب الفلسطيني لتلك الصفقة التي كانت "وصفة سريعة" لتصفية القضية الفلسطينية، تلته مندوبته في الامم المتحدة التي قالت: "إن الولايات المتحدة ستمول الأونروا في حال عدّلت إحصاءاتها لعدد اللاجئين حتى تتناسب مع التقديرات الدقيقة"، اي ان الادارة الامريكية لن تقوم بدفع اي اموال الا اذا وافق الفلسطينيون على ما تريده بالسياسة، ليتأكد بعد ذلك ان مسألة انهاء وكالة الغوث اصبحت من اعمدة السياستين الامريكية والاسرائيلية..

وضعت الادارة الامريكية واسرائيل استراتيجية متدرجة لتحقيق اهدافهما بضرب حق العودة من مدخل استهداف وكالة الغوث، وكان اول امتحان واجهته في نهاية عام 2018 عندما تقدمت الولايات المتحدة بشكوى تتهم فيها موظفين كبار في وكالة الغوث بشبهات فساد، وبعد تحقيقات شفافة أجرتها الأمم المتحدة، وباشراف الامين العام، تبين ان الشكوى الامريكية مجرد اداعاءات ومزاعم لا صحة لها، ولم يثبت التحقيق وجود اي "فساد مالي" داخل الأونروا. فكان الامتحان الثاني، وهو المساومة على التجديد للوكالة من فبل الجمعية العامة للامم المتحدة، حيث اشترطت الولايات المتحدة ودول اخرى من اجل التصويت ايجابا على التجديد ان يتم تخفيض التفويض من ثلاث سنوات الى سنة واحدة، وقد جاءت نتيجة التصويت كاسحة بأغلبية 170 دولة اكدت دعمها السياسي للوكالة، رغم التهديدات الامريكية العلنية لدول العالم، لتنتقل الادارة الامريكية الى استراتيجية اخرى..

الخطوة الثالثة كانت العمل على افراغ الاونروا من اي مضمون اجتماعي واغاثي ودفعها للانهيار من الداخل، فكان العام 2019 بداية لحملة جديدة تعرضت لها وكالة الغوث، حيث وضعت اسرائيل والولايات المتحدة على أجندة أولوياتهما السياسية والدبلوماسية مسألة التحريض ضد الوكالة وحث دول العالم على وقف تمويلها، سواء بشكل مباشر او عبر منظمات ولوبيات يهودية وصهيونية تنشط في اكثر من دولة، على شاكلة ما حصل في العام 2019 حين ضغطت "المجموعة الديمقراطية المسيحية" في البرلمان الاوروبي(02 تشرين اول 2019) من اجل دفع الاتحاد الأوروبي لقطع مساهماته المالية بذريعة "ان المناهج التربوية لوكالة الغوث تحرض على العنف والكراهية". وبعد ان تبين عدم صحة هذا الاتهام، وان الوكالة ملزمة باعتماد مناهج الدول المضيفة استنادا الى اتفاقات ومراسلات معها، بما فيها السلطة الفلسطينية، لجأ الاتحاد الاوروبي الى سياسة الابتزاز بدعوته السلطة لتغيير مناهجها التعليمية من اجل الافراج عن اكثر من 200 مليون يورو..

في شهر آذار من العام 2020 عين الامين العام للامم المتحدة السيد فيليب لازاريني مفوضا عاما لوكالة الغوث، في ظل وضع صعب كانت تعيشه الاونروا بسبب وصول الضغط الامريكي الى مراحل متقدمة من الخطورة. وكان واضحا ان مهمة لازاريني لن تكون سهلة، بعد ان خلف السويسري بيير كرينبول الذي اجبر على تقديم استقالته نهاية عام 2019 بعد حملة من منظمات صهيونية على خلفية موقفه من وقف المساهمة الامريكية واعلانه حملة "الكرامة لا تقدر بثمن"، التي كانت سببا مباشرا في محاربته وتلفيق تهم بالفساد وسوء استغلال السلطة، تبين لاحقا ان الادارة الامريكية واسرائيل هما من فبركتا هذه الحملة، وفقا لما ذكره كرينبول بعد ذلك..

وبغض النظر عن صحة الادعاءات والمزاعم بوجود فساد داخل وكالة الغوث، فان كرينبول بذل جهودا جبارة لتجاوز الوضع الصعب الذي نشأ بسبب قطع المساهمة المالية الامريكية، واتهم صراحة الولايات المتحدة واسرائيل بانهما "تسعيان الى الانتقاص من الاونروا بدون هواده بغية تحقيق اهدافهم المرتبطة بصفقة القرن.. وتمكن كرينبول من جمع ملايين الدولارات مكنت الوكالة من البقاء صامدة في ظل حملة يومية غير مسبوقة من قبل مندوبة الولايات المتحدة في الامم المتحدة نيكي هايلي ومندوب اسرائيل داني دانون وعشرات المنظمات البحثية والقانونية والبعثات الدبلوماسية التي عملت جاهدة على "شيطنة الاونروا" باعتبارها منظمة لا تستحق ان تقدم لها الاموال، ومواقف هؤلاء في تلك الفترة كانت واضحة ولا تقبل اي تفسير..

كانت مهمة المفوض العام الحالي هو اخراج الوكالة من ازمتها وتقديم مبادرات غير تقليدية تساهم في ايجاد معالجة لعشرات المشكلات الانسانية والاقتصادية التي يشكو منها اللاجئون الفلسطينيون في جميع مناطق العمليات. غير انه لم يلمس، لا سياسيا ولا شعبيا، ان السيد لازاريني تحلى بالشجاعة في مواجهة الضغوط الامريكية الاسرائيلية، بل على العكس يؤخذ عليه مجاراته للسياسة الامريكية في اكثر من قضية ومساهمته في تأجيج حالة القلق الموجودة لدى اللاجئين، منها على سبيل المثال:

- دعمه المباشر لمدير العمليات في قطاع غزه ماتياس شمالي الذي انحاز في مواقفه الى جانب العدوان الاسرائيلي على قطاع غزه عام 2014، مانحا الاسرائيليين صك براءة بأنهم لم يستهدفوا اماكن مدنية فلسطينية، على عكس الواقع الذي نقلته وسائل الاعلام على الهواء باستهداف ابراج ومنازل ومدارس..

- توقيعه وبشكل سري في شهر آب 2021 اتفاق اطار مع الولايات المتحدة مُنِحَت بموجبه حقوقا تنتقص من التفويض الممنوح لوكالة الغوث ويجعل التمويل الامريكي مشروطا بتحقيق جملة من المسائل المتصلة بالهوية والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني..

- تسريبات اعلامية حول سعي بعض موظفي الوكالة لتهيئة الارضية في الوكالة من اجل دمج خدماتها بمفوضية اللاجئين، والتي تنسجم بشكل كامل مع ما طرحه نتنياهو عام 2017 بقوله: "آن الأوان لحل الأونروا ودمجها مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة".

امام كل هذا ومع حساسية اللاجئين تجاه الاونروا وما تتعرض له من استهدافات واضحة وعلنية وصريحة، فكان يجب على المفوض العام ان يكون اكثر حرصا في اختيار مصطلحاته وصياغة مواقفه بشكل لا يحتمل اي تأويل، وهو الدبلوماسي القادم من ملاك الامم المتحدة، حيث عمل في بعثة الامم المتحدة في الصومال كنائب للممثل الخاص هناك، كما تولى عدة مهمات في بعثات خاصة بالامم المتحدة في العراق وانغولا والاراضي الفلسطينية. بالرغم من ذلك، اصدر مواقفه الاخيرة التي استدعت ردود افعال غاضبة من كافة الهيئات السياسية والفصائلية والشعبية الفلسطينية.. بعد ان قال " "أن أحد الخيارات التي يجري استكشافها حاليا في زيادة الشراكات داخل منظومة الأمم المتحدة الأوسع إلى أقصى حد، ويشغل مكانة مركزية في هذا الخيار أن يكون من الممكن تقديم الخدمات نيابة عن الأونروا".. وهي مواقف تحمل اكثر من تفسير خاصة في القسم الاخير (تقديم الخدمات نيابة عن الأونروا)، والتي لا يفهم منها، فلسطينيا، الا ان الامم المتحدة ومنظماتها سيكونوا بديلا للاونروا في تقديم الخدمات، وليس كما اوضحت الاونروا فيما بعد "أن مواقف المفوِّض العام هي من اجل استغلال إمكانيات منظمات أممية أخرى لصالح الاونروا وعملها وليس استبدال، وان المقصود بالشراكة هو امر سبق وان تم تطبيقه بسوريا ولبنان، عبر الاستفادة من برنامج الغذاء العالمي والأموال النقدية".

وبغض النظر عما قصده المفوض العام واضطرار الاونروا الى التوضيح بشكل دائم، فلا يمكن لعاقل الا ان يقر بحقيقة الاستهدافات الامريكية والاسرائيلية لوكالة الغوث، وعلى المفوض العام وغيره من الموظفين ان يتوخوا الدقة في مواقفهم، خاصة وهم يعلمون تمام الادراك الوضع الذي تعيش الوكالة في اطاره، والا فمن حق الشعب الفلسطيني، اذا ما واصل اصدار مواقفه الملتبسه، ان يوصفه بانه ينفذ السياسة الامريكية الاسرائيلية داخل وكالة الغوث، ومن حق الغيورين على وكالة الغوث وخدماتها ان يطرحوا خيارات اخرى: اما الالتزام بموجبات التفويض والعمل ليل نهار على حشد التمويل اللازم للموازنة واما الرحيل!

حين نتحدث عن حساسية اللاجئين تجاه وكالة الغوث فنحن نعرف تماما ما يحصل داخل الوكالة وعلى هامشها وبقربها، ومن حق، بل من واجب اللاجئين الفلسطينيين أن يطرحوا أكثر من علامة إستفهام حول توقيت كل مشروع ومعلومة وفكرة تتعلق بالوكالة. ولا يجب ان يغيب عن بالنا ان كل ما يتم طرحه اليوم من "مشاريع وافكار" تتعلق بالوكالة تتكئ على وثيقة سبق وان تم تناولها اعلاميا عام 2017 وصادرة عن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الامم المتحدة، وتتحدث عن سيناريوهات ما بعد توقف خدمات وكالة الغوث والشروط التي تجعل من اللاجئين الفلسطينيين يستفيدون من خدمات المفوضية.

المتابع لمواقف المفوض العام يلاحظ انه في جميع الاحاديث الصحفية والمواقف الرسمية، فانه يركز على القضايا الانسانية، وهذه مسألة مهمة في ابراز المعاناة الانسانية للاجئين الفلسطينيين، وهي معاناة ناتجة اولا وقبل شيء عن واقع اللجوء الذي يتحمل مسؤوليته العدو الاسرائيلي، غير ان الاكتفاء بهذا التوصيف من شأنه المس بحقوق اللاجئين لجهة تكريس النظرة الانسانية في التعاطي الدولي مع اللاجئين الفلسطينيين وقضيتهم. فهذه القضية وان كانت انسانية في جزء كبير منها، الا انها قضية سياسية اولا، ولا يمكن لحل ان يستقيم الا على قاعدة الحل السياسي القائم على عودة اللاجئين الى ديارهم وممتلكاتهم وفقا للقرار الدولي رقم 194، واية اجتهادات من هذا الموظف الدولي او ذاك، فهي ليست في مكانها ويجب محاسبة المسؤول عنها كونها تتسبب في اشاعة بلبلة ليست مطلوبة خاصة في هذه المرحلة، بغض النظر عن نوايا هذا المسؤول وذاك.. فالامور السياسية ليست نوايا وعواطف مضمرة بل تفاصيل تتحرك يوميا على طاولة القرار الدولي..

هذا يعني ان تمسك اللاجئين الفلسطينيين بوكالة الغوث ليس مرده أنها منظمة دولية تقدم لهم خدمات التعليم والصحة والاغاثة الاجتماعية فقط، فالاونروا ليست جمعية خيرية، حتى لو كان جزءا من عملها يقع ضمن هذه الخانة، واللاجئون ايضا ليسوا متسولين يدقون ابواب الدول المانحة طلبا للدعم والمساندة، بل ان اللاجئين يتمسكون بالوكالة انطلاقا مما تشكله من رمز سياسي له علاقة مباشرة بعودة اللاجئين وبالقرار رقم 194، وهذا يفسر الموقف الاجماعي للشعب الفلسطيني بالتمسك بوكالة الغوث حتى تحقيق الهدف الذي انشئت لاجله، وهو تقديم الخدمات حتى اوان العودة، وبالتالي فوجودها وبقاؤها امر سياسي حتى ولو كانت "مفسلة"، لكن هذا لا يعني العمل وبشكل مقصود لافلاسها وافراغها من مضامينها الاجتماعية، وكل من يعمل لذلك فهو متأمر على وكالة الغوث وعلى اللاجئين وحقهم بالعودة ويجب مواجهته والتصدي له..

ان التحركات الشعبية السلمية على اوضاع وكالة الغوث والمواقف الفلسطينية الباردة تجاه مشكلة العجز المالي ربما بعثت برسالة سلبية الى الدول المانحة والى اعداء وكالة الغوث ان بامكانهم تمرير مخططاتهم بهدوء ودون ضجة او دون تبعات على الارض، وهذا ما حذرنا منه في "دائرة وكالة الغوث في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" مرات عدة من ان سياسة الشكوى والاحتجاج السياسي والشعبي لم تعد تجدي نفعا، لأن حجم الاستهداف بات كبيرا وخطورته باتت تتطلب مواقف وتحركات غير تقليدية..

ما يحصل اليوم لجهة مراكمة المشكلات المالية عام بعد عام لا يمكن تفسير اسبابه الا وفقا لامرين: اما ان موظفي وكالة الغوث المعنيين بحشد التمويل يتقصدون عدم النجاح في الفتح على مصادر تمويل جديدة وحل مشكلة الابتزاز المالي وذلك نزولا عن الرغبات والضغوط الامريكية، او ان هناك اتفاقا غير معلن بتوزيع الادوار بين الدول المانحة حول قضايا التمويل، وفي كل الحالات فان هذا يرتب مسؤوليات ومهمات مضاعفة باتجاه الاطراف المعنية:

اولا: باتجاه الدول المانحة واشعارها بأنها تتحمل مسؤولية المشاركة في مشروع القضاء على وكالة الغوث او الصمت على العبث الذي يمارس من قبل الثنائي الامريكي الاسرائيلي ضدها، وان من يدعم الاونروا سياسيا عليه ان يوفر لها احتياجاتها من التمويل لتمكينها من اداء دورها في الحفاظ على الاستقرار في المنطقة، حيث تعتبر هذه المسألة نقطة مركزية في السياسة الخارجية لعدد من القوى الدولية الفاعلة.

ثانيا: باتجاه القيادة الرسمية للسلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية المطالبة بتغيير نمط التعاطي الرسمي الفلسطيني مع الازمة المالية، لجهة رفع سقف الموقف الفلسطيني امام المجتمع الدولي وتحميله مسؤولية سياساته تجاه اللاجئين الفلسطينيين، ووضع الاستراتيجيات الوطنية على مساحة كل تجمعات الشعب للفلسطيني، وان المطلوب التعاطي مع ما يتهدد الاونروا من مخاطر باعتبارها خطرا يهدد القضية الفلسطينية برمتها وفي القلب منها حق العودة..

ثالثا: باتجاه الفصائل والمؤسسات الاهلية بالتوقف عن صيغ المناشدات والشكاوى واستجداء الدعم الدولي، واستبدال ذلك بحركة شعبية موحدة وضاغطة على اصحاب القرار، واطلاق ورشة عمل وطنية، تقدم المقترحات حول آليات التحركات الشعبية على مستوى جميع الاقاليم وبما يبعث برسالة الى الدول المانحة تحذر من نتائج سياساتها على ما هو ابعد من الحالة الفلسطينية.

رابعا: باتجاه الدول العربية المضيفة التي تعتبر المتضرر الثاني بعد اللاجئين في حال تعرضت وكالة الغوث وحقوقهم السياسية لأي مس، لأن المشاريع المطروحة تلحظ دورا لهذه الدول في تحمل تبعات وجود اللاجئين على اراضيها، سواء على المستوى الخدماتي او على المستوى السياسي.. وهو ما يتطلب خروج هذه الدول عن صمتها وتوحيد مواقفها برفض ما تتعرض له وكالة الغوث..

اذا كانت الاهداف الامريكية والاسرائيلية واضحة ومعلنة، فهناك من يسعى لاستضعاف الشعب الفلسطيني بجعله اسيرا لدعم مالي دولي يستخدم مادة للابتزاز، وبالتالي لم يعد هناك ما يبرر استمرار الفلسطيني على سياسته التي اكدت تجربة اكثر من ربع قرن انها كانت فاشلة على مختلف المستويات. فلا الضغط الدولي الأوروبي والعربي، ولا التذرع بادارة سلطة لا سلطة لها على شيء، ولا الانقسام الداخلي سببا لعدم التوحد على قضية وطنية، سواء انقسام اليمين واليسار او اليمين واليمين او اليسار واليسار، فكلها مسميات لم تعد تعني شيئا ما لم تقرن باستعداد واضح وصريح للدفاع عن حقوق الشعب.. فهل تشكل حالة وكالة الغوث والسلطة الفلسطينية ايضا لجهة الابتزاز السياسي والمالي اللتين تتعرضان له جرس انذار يفتح الباب امام مسار فلسطيني جديد لجهة تغيير السياسات والاستراتيجيات مع الذات اولا ومع الآخرين ثانيا؟

27 نيسان 2022